مباشرة وزارة العمل اللبنانية تطبيق القوانين المرعية الإجراء أحدثت ما يشبه الزلزال وفجّرت موجة إعتراضات غالبيتها فلسطينية، مع تضامن مُعلن لشريحة واسعة من اللبنانيين، غالبيتهم من المسلمين، السنّة، وصلت الى حد إصدار فتاوى تُحَرِّم الالتزام بالقوانين..

السؤال البديهي الأول : لماذا لم تعمد الوزارات السابقة إلى تطبيق قوانين العمل اللبنانية على الفلسطينيين؟ وهل من تفاهمات تحت الطاولة أجّلت تطبيقها؟ ومن هم أطرافها؟
وهناك جملة أسئلة يوجب طرحها، علّ الإجابات عليها قد ترسم خارطة طريق لحلول عادلة، تحمي اليد العاملة اللبنانية في ظل أشرس أعنف إقتصادية ومالية يعيشها لبنان منذ عقود، وتؤمن متطلبات وحقوق لاجئين فلسطينيين، أُجبروا على ترك أراضيهم منذ عقود طويلة أيضاً.
لبنان الغارق في النزوح:
يغرق لبنان في موجات من النزوح القسري، بدأت عام ١٩٤٨ و١٩٦٧ مع الفلسطينيين، وتوجت إعتباراً من العام ٢٠١٣ مع نزوح مئات الآلاف من السوريين هرباً من الحرب في سوريا، وبات هذا البلد الصغير جغرافياً (نحو عشرة آلاف كيلومتر مربع)، يستوعب نسبة تتخطى ثلث مواطنيه، من النازحين وغالبيتهم الساحقة يفتقرون الى ابسط مقومات العيش الكريم، في حين تتخطى نسبة البطالة المقنعة ثلث اللبنانيين، فعمد عدد كبير منهم الى البحث عن فرص عمل خارج لبنان، وتشير الأرقام أن “نزيف” الهجرة متواصل ما بات يُهدد هوية لبنان وتوازناته الديمغرافية الدقيقة.
من هنا يمكن فهم جانب من التداعيات التي أحدثها قرار وزير العمل كميل ابو سليمان في المباشرة بتطبيق قانون العمل على كافة العمالة “الأجنبية” السوريين والفلسطينيين تحديداً.
لقد عاش لبنان منذ العام ١٩٧٥ حرباً إمتدت ل ١٥ عاماً، إنتهت بسيطرة النفوذ السوري، الذي فرض التساهل والتراخي في تطبيق القوانين على العمال السوريين، وسجلت بعض المحاولات لقوننة العمالة الفلسطينية، لكنها لم تجد خواتيمها المفترضة لتداخل عوامل داخلية وإقليمية وحتى دولية، جمّدت الواقع، ومددت مفاعيله. كما ساهمت تلك الوصاية في ترك السلاح الفلسطيني داخل المخيمات على أنواعها، علماً أن هذا السلاح شكل السبب المباشر لإندلاع الصراع المسلح في لبنان في ١٣ نيسان-أبريل عام ١٩٧٥، كما تم تجميد تطبيق مقررات طاولة الحوار ٢٠٠٦ والقاضية بنزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات (الناعمة، قوسايا..) وتنظيم السلاح داخلها، ما يعكس إنقساماً لبنانياً في التعاطي مع هذا الملف.
صفقة القرن..والتوطين
من التعديلات الدستورية التي أقرها إتفاق الطائف عام ١٩٨٩، بند واضح ينص على رفض توطين الفلسطينيين اللاجئين في لبنان، هذا التوطين الذي عاد ليُطل برأسه مع مباشرة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في التسويق ل “صفقة القرن”، وقد رافقها الكثير من المواقف والتحليلات، بأنها ستفرض التوطين كأمر واقع، علماً أن الشق السياسي المفترض أن يرافقها، لم تتضح معالمه بعد، ولكنه على الأرجح سيعكس موازين القوى على أرض الواقع.
من هنا يتصادم خطابان في لبنان:
الأول يسعى للجمع بين صفقة القرن وتدابير وزارة العمل اللبنانية من ناحية التوقيت والمفاعيل، ليسوق أنها المدخل للتوطين.!
الثاني يستند على منطق معاكس ليؤكد أن المدخل للتوطين هو في تطبيع الوجود الفلسطيني وشرعنته بدءاً من سوق العمل.
سوق العمل:
لإخراج هذا الملف من المزايدات السياسية والشعبوية، دعا إختصاصيون إلى دراسة سوق العمل اللبنانية بدقة، ومعرفة إحتياجاتها، وقدرات العمالة الفلسطينية، من أجل الخروج بقوانين عملانية، تحمي اليد العاملة اللبنانية في وطنها من جهة، وتسمح للضيوف الفلسطينيين بالعيش حياة كريمة، ريثما يتم إيجاد حل لوضعهم “الشاذ” والمستمر منذ أكثر من نصف قرن.وهنا تختلف الأرقام بين من يشير الى وجود مابين ثلاثمئة وثلاثمئة وخمسين ألفاً وبين من يؤكد أن إجمالي عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لا يتخطى المئة وثمانين ألفاً، نظرا لتجنيس او هجرة عدد كبير منهم على مرّ السنوات.
مسؤولية فلسطينية:
وهنا لا بد من التذكير أن هناك مسؤولية فلسطينية، تجاه هذه القضية، خصوصاً وأن الانقسامات الفلسطينية-الفلسطينية، ساهمت دون شك في إضعاف الموقف التفاوضي بشكل عام، وأضرت بعلاقات السلطة الإقليمية والدولية. ما يُنذر بالمزيد من التجاهل لاحتياجات اللاجئين الفلسطينيين، ولتعبئة هذا الفراغ لامفرّ من مساهمة رجال أعمال وأثرياء فلسطينيين في تخفيف معاناة شعبهم في المخيمات، والتشبث بحق العودة.
لبنان المنقسم:
قد يكون تموز-يوليو ٢٠١٩ مغايرا لنيسان-ابريل ١٩٧٥ في الكثير من التفاصيل وموازين القوى، ولكن لا مفرّ من التوقف عند الإنقسامات الحادة التي يعيشها لبنان عند كل مفصل أو قرار، وإن كانت تبدوالأمور ممسوكة سياسياً وعند أصحاب القرار، لكنها تُظهر دوماً، أن الشعوب، أو المجتمعات اللبنانية، في حاجة الى حوار أعمق وأكثر صراحة في ما بينها، إذا كان لديها النيّة والعزم في تفكيك حقول الألغام الداخلية، وما أكثرها!!