“أن يختفي الوالد وهو في ال60 من عمره وعزّ نشاطه السياسي، ويتم شطب إبنه الأكبر بهاء من خلافته، هو آخر شيء كنت أتوقعه في حياتي..”: هذا ما عبّر عنه سعد الدين رفيق الحريري لأحد أصدقائه المقربين بعد نحو عامين من زلزال 14 شباط 2005 الذي قلب مسار لبنان، وأيضاً مسار حياة ومسؤوليات إبن ال 35 عاماً حينها، فالحدث جلل وتداعياته متسارعة ومتلاحقة، فقد أُلبس عباءة والده الملطخة بدمائه التي فرضت عليه إتجاهاً واحداً في الاتهام والتعبئة، والمطالبة بالحقيقة!
بعد إسقاط وزارة الرئيس عمر كرامي في 28 شباط/فبراير 2005 بفعل الصدمة والضغوط عقب جريمة إغتيال أهم زعيم سني في تاريخ لبنان المعاصر، تم التفاهم على حكومة وسطية، تولى رئاستها النائب والوزير نجيب ميقاتي، مهمتها إجراء انتخابات نيابية، أدت الى وصول غالبية لقوى 14 آذار, بقيادة تيار المستقبل، وبفعل تفاهم رباعي، صاغه الوزير وليد جنبلاط حينها، ولأن الشيخ سعد كان في فترة إستيعاب الصدمة و “التدرّب” على إدارة مسؤوليات تيار المستقبل، تم التفاهم على تولي الوزير الأقرب الى الرئيس الشهيد رئاسة الوزراء، حيث بقي الرئيس فؤاد السنيورة في السراي، من صيف 2005 الى مابعد انتخابات 2009، التي فاز بها أيضاً تحالف 14 آذار، ليسلم المنصب لسعد رفيق الحريري، ويستعيد بذلك آل الحريري السراي، بعد 5 سنوات على خروجهم منها.
بهدوء ولكن بثبات، تمكن سعد الحريري من الإمساك بمفاصل الزعامة، بدءاً بالبيت الداخلي، وتشكيل فريق من المستشارين ، بعضهم عملوا عن كثب مع والده، وبعضهم إختارهم هو من عمره، أو أصغر قليلاً، كما أبعد عدداً من المستشارين الذين كانوا مقربين لوالده.
بين 2005 و2009، مرت الايام بطيئة على من ورث الزعامة، قبل أوانها، فحاول التأقلم مع متطلباتها رويداً رويداً، وكانت تصعقه إغتيالات مدوية، لصحافيين وسياسيين، من خطه السياسي، بعضهم قريب جداً لقلبه، فزودته بالعزيمة للإستمرار، وعدم الاستسلام أو الخوف، فكانت حياته أشبه بفيلم بوليسي، التدابير الأمنية تخنقه، ولكنها أولوية، وتأثر تواصله بشكل كبير مع الأصدقاء والشركاء، فلازم منزله لفترات طويلة، وأصبحت الدائرة الصغيرة المحيطة به هي عالمه بأكمله، او تكاد.
حرب تموز 2006 شكلت مفاجأة كبيرة له، خصوصاً أنه نقل تحذيرات غربية وفرنسية لحزب الله، وتلقى مقابلها ضمانات بأن موسم الصيف سيكون الأفضل منذ سنوات طويلة، وتأثرت جداً علاقته بحزب الله بالحرب:اسبابها، نتائجها، تداعياتها..شعر وكأنه خُدِع، ولكنه كان دوماً يحاول استنساخ والده، قائلا في وجدانه: لو كان مكاني ماذا كان قد فعل؟ حاول مراراً الشد على يد الرئيس سنيورة في وجه الضغوط، لكنه كان يحاول أيضاً فرملة مواقفه النارية، ومع مرور الوقت، بدأت علاقاته الوثيقة مع ركنيّ 14 آذار، رئيس الحزب الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، رئيس حزب القوات اللبنانية د.سمير جعجع، تتعرض لخضات وطلعات ونزلات.
علاقة الحريري-جنبلاط: بادر جنبلاط فور غياب الحريري الأب، ولعب دوراً محورياً في “ثورة الأرز” من خلال تنسيق متواصل مع البطريرك صفير، واتسمت علاقته بعائلة الحريري بالتنسيق الدائم، ونسج معه سعد الحريري مباشرة، ومن خلال المستشارين، غرفة عمليات مشتركة، نسقت كافة الخطوات على المستوى السياسي، ولكن العلاقة بدأت بالتعرض لتفسخات بعد منازلة 7 أيار 2008، ليعود جنبلاط ويعلن في صيف 2009 إنفصاله عن 14 آذار، فماذا في التفاصيل والحيثيات ؟
لعب جنبلاط، على عكس سعد الحريري، دوراً محورياً، في أزمة شبكة اتصالات الحزب، والكاميرات المزروعة على مدارج مطار بيروت الدولي، وكأنه أطلق الرصاصة السياسية الأولى في تلك المواجهة التي سرعان ما تحولت عسكرية، وانتهت الى إحتلال حزب الله وحلفائه كافة احياء بيروت السنية، وشهدت اشتباكات عنيفة شيعية – درزية على مدى ٣ أيام في اكثر من محور. وانتهت الى تسوية الدوحة، حيث بدا جنبلاط مستعجلاً اي حل، فيما كان سعد الحريري تحت وقع الصدمة، وخسارة بيروت السريعة، خصوصاً إنه كان على تواصل دائم مع الرياض ومع السفير السعودي الخوجة، وبديا متفاجئين من سرعة تطور الاشتباك السياسي، خصوصاً قرارات مجلس الوزراء القاضية بإزالة شبكة اتصالات حزب الله، وإقالة مدير جهاز أمن المطار رفيق شقير.
الحريري حمّل جنبلاط والسنيورة، جزئياً،مسؤولية التدهور، فيما تفاجأ جنبلاط ، لا بل صُعق من الانهيار السريع لتيار المستقبل، ومن تحييد القوات اللبنانية نفسها، وشعر كأنه اصبح مطوقاً بشكل تام، من الحزب الوافر العدة والعديد، ومن تيار درزي متشدد خارج عن سلطته، ظهر بسلاحه وتنظيمه في مناطق ديرقوبل ، بشامون، قبرشمون، الشويفات، وغيرها.. ومن هنا رأى من الضرورة الملحة محاولة نزع فتيل التفجير والتوتر مع حزب الله وازالة التشنجات، والعودة الى التطبيع والتنسيق خصوصاً على المستوى العملاني، والحقها بمحاولة مواكبة السين سين، وتطبيع العلاقة مع الرئيس السوري بشار الأسد عام 2010 وموقفه الشهير تحت عنوان :”لحظة التخلي”
الحريري-جعجع: عندما تولى سعد الحريري السلطة، كان جعجع ما يزال في السجن في وزارة الدفاع يقضي “محكوميته المؤبدة”، وبدأ تنسيقه غير المباشر مع القوات من خلال سمير فرنجية ، وفارس سعيد، ومن ثم مباشرة من خلال ستريدا جعجع، وإقتصرت حصة القوات في الترشيحات النيابية على 5 نواب، فيما إستطاع العماد عون حصد 21 مقعداً من خارج التحالف الرباعي، وفرض نفسه الزعيم المسيحي الأول دون منازع. تسوية إخراج جعجع من سجنه تركت لما بعد الانتخابات النيابية، وقد تمت وفق قانون عفو خاص صوت عليه البرلمان بالتزامن مع قانون عفو آخر يعفي عن إسلاميين اتهموا بالإرهاب في الضنيه ومجدل عنجر قبل 5 سنوات.
استعاد جعجع رويداً دوره السياسي، داخل القوات أولاً ، وقد واجه مجموعة إشكالات تنظيميه مع قدامى القوات، ومسؤولي بعض وسائل إعلام القوات، ومع شاشة LBC ، لم تنتهي فصوله حتى اليوم.وسعى لتوسيع انتشار القوات سياسياً وشعبياً، في مواجهة جماهيرية زعيم لم يشهدها تاريخ لبنان المعاصر هو العماد ميشال عون، وتركزت أهداف جعجع على خوض انتخابات برلمانية تعطي القوات حجمها الفعلي كما كان يصفه، ولابد من أن يتوسع على حساب مرشحي حلفائه، وبينهم المستقبل والاشتراكي، وهذا خلق مساحة خلافية مع الحريري ، لكنها كانت قابلة للاستيعاب، لو كانت العلاقات الشخصية بين الزعيمين ممتازة، ولكنها لم تكن كذلك، لأن الكيمياء المفقودة لم تعزز تقاطع المصالح والإحترام المتبادل، فالشخصيتين مختلفتين الى حدود التناقض، وهناك إختلاف كبير في النظرة للعمل السياسي، والحزبي. وبقيت العلاقة بين مد وجزر ، وتحالف على المستوى الوطني، دون أن تتحول الى تحالف استراتيجي مع خطة ومشروع، وساهمت عدة محطات سياسية داخلية في إظهار الاختلاف العميق في النظرة، لقانون الانتخاب مثلاً، وغيره من الملفات المهمة. شكلت بداية نهاية عهد ميشال سليمان القشة التي قصمت ظهر البعير، فجعجع اعتبر نفسه مرشحاً طبيعياً وجدياً ووحيداً لما كان يسمى قوى 14 آذار، فيما إعتبر الحريري أن التنسيق معه حول إدارة هذا الاستحقاق كان يُفترض ان يكون اولوية، وكانت تصل الى جعجع أنباء عن تفاهمات تبنى بين الحريري وعون ، ولم يكن وقعها جيد على قلبه. واتى تبني الحريري سليمان فرنجية مرشحاً رئاسياً، ليدفع جعجع الى خيار آخر، تمثل بدعم العماد عون للرئاسة، وبدا وكأن شهر العسل بين الطرفين انتهى الى دون رجعة، لا بل هناك كمية كبيرة من اللوم في قلب الحريري تجاه القوات، يقابلها شعور قواتي بالغبن وعدم الالتزام بالتحالفات، ويبدو أن النقطة الأكثر حساسية عند الحريري تمثلت بسعي جعجع ونجاحه في بناء علاقات ثقة مع الرياض أولاً، وعدد من الدول الخليجية ثانياً، خارج عباءة الحريري، الذي كان يُفضل، لا بل يسعى كي تمر اي علاقة بالرياض من خلاله او بالتنسيق معه، لانه كان يدرك ان نقطة قوة والده الأساسية هي في حصرية العلاقة مع الحكم في السعودية .
وهنا تستوقفنا البحصة التي حاول الحريري أن يبقها بعد انتهاء أزمته مع السعودية عام 2019
سعد الحريري بين 2005 و 2019، عاش النجاحات والإخفاقات، نُفي من رئاسة الوزراء والوطن لسنوات، وتعثرت أعماله وبالتالي علاقته بالرياض لفترة، ولكنه أدار ازماته وأنتج تسوية رئاسية أعادته الى السراي الحكومي، وأيقن منذ اللحظة الأولى أن ديمومة زعامته تبدأ أولاً وأخيراً في الإمساك بمفاصل الزعامة السنية من خلال تيار المستقبل الذي أطلقه والده، ولذلك مقتضيات عدة، تبدأ بالتفاهم ولو بحده الأدنى ضمن العائلة، والقدرة على تمويل تنظيم قام أساساً على مبدأ الخدمات المباشرة، والاستحواذ على حصة وازنة في الحكم تؤمن الروافد والإستمرارية.
كما أيقن أن العلاقة الممتازة مع الرياض هي الممر الإلزامي للحفاظ على الزعامة والدور له ولتياره، وهنا أيضاً يبدو أنه تمكن من عبور عثرات عدة، وتعاطى ببراغماتية وواقعية مع متغيرات عميقة في القيادة السعودية، بانياً على تاريخية وحميمية العلاقة، والقدرة من خلال علاقاته الخارجية، وقدراته التمثيلية داخل لبنان، للعبور بين المطبات باقل مقدار ممكن من الخسائر، ومن الواضح أنه مازال يحظى بغطاء السعودية.
غياب المنافس السني القوي صبّ لمصلحته، وهو عرف كيف يُحيّد خصومه من خارج تياره او منافسيه المحتملين داخله، ولعل إخراج نهاد المشنوق من الوزارة وقبله فؤاد السنيورة من البرلمان، والقدرة على اعادة استيعاب أشرف ريفي، وتسوية الأمر الواقع مع نجيب ميقاتي، وغيرها من الخطوات، أكدت أن الحريري على مشارف الخمسين، غيره منتصف الثلاثينات، فالرجل تعلّم من كيسه، كما يقول المثل اللبناني، وهو يعلم، دون أن يراهن، أن “مشروعية” زعامة رفيق الحريري المعمدة بالدم ، هي له، وله وحده.
حرص الحريري على إدارة العلاقة مع العهد الحالي شخصياً، من خلال التواصل الدائم والودّي مع الرئيس عون والوزير باسيل، ويضعها اولوية الأولويات وكيفية إدارة توازناتها، ومحاصصتها، وتحدياتها الداهمة، لإنتاج موازنة قابلة للتطبيق دون التسبب بالمزيد من الانهيار ، وقادرة على فتح باب بعض الديون الإضافية دون تكلفات هائلة. هذا استحقاق مفصلي يعيشه الحريري، فهو مصر على إنجاح التسوية وفق قاعدة : ليّن دون ان يُكسر، طريّ دون أن يُعصر.
وقد اجاد من خلال تلك القاعدة تمرير نصف العهد، وتشكيل حكومتين، وإجراء اول انتخابات برلمانية منذ 2009، مبتعداً عن المواقف السياسية الحادة الشعبوية التعبوية، فالرجل يكره المزايدات، وهو قليل الكلام حتى في مجالسه الخاصة، يُفضّل الاستماع، وتفرّس من يجالسه، ويقرأ بدقة وإمعان خلف الكلمات، خصوصاً المعسولة منها.
سعد الحريري 2019، قمة الواقعية، لا أحلام كبيرة، ولا وعود فضفاضة بالإصلاح، يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيفية حماية كتفيه من أي محاولة قضم، تحول الى رجل سياسي تقليدي، ربما، ومن يجزم أن هذا الزمن لا يفترض كلاسيكية وهدوء، لتمرير المزايدات الطائفية والمذهبية والرؤوس الحامية، وما أكثرها .
خسر بعضاً من كتلته النيابية، طبعاً، لكن فاز بالمقابل بتسويات مع خصوم سابقين، كالرئيس عون والوزير باسيل والرئيس ميقاتي.
يعرف نقاط ضعفه جيداً، ولكن بعضها قد يكون تحول اليوم الى نقاط قوة، ويحاول كلما وُضِعَ أمام استحقاق القول: لو كان الوالد مكاني لقرر ذلك..وهو يعلم تماماً أن والده دخل الزعامة من باب المال والأعمال لا يحمل ثأراً ولا عداوات حادة والتفاهم السعودي-السوري حمى مشروعه حتى بداية الألفية الثانية ..فيما هو دخلها من باب النار والدم، والمتغيرات العميقة من ربيع عربي، الى حمامات دم في سوريا والعراق وغيرها من مناطق العرب، والتوتر السعودي-الإيراني على أشده..
يعلم الحريري تماماً أن الخطر اليوم ليس داهماً على زعامته، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً في إحتفاظه برئاسة الوزراء، التي هي عرضة للخطر، في حال حدوث :
إنهيار مالي في لبنان او تمادي التدهور الاقتصادي وتوسع رقعة الاحتجاجات.
سقوط التسوية الرئاسية بسبب عوامل إقليمية ضاغطة
الحريري على يقين تام أن زعامته تضعف شيئاً فشيئاً، لذلك هي حتماً ليست فوق الأخطار..المرتقبة وغير المرتقبة منها..وكي يسعى للحفاظ عليها لا مفرّ أمامه من إعادة هيكلة تياره و”شدشدة” دائرة المستشارين، والسعي الفعلي لإقرار إصلاحات في هيكلة القطاع العام، والعمل على دحضِ شبهات الهدر والتراخي في الوزارات المكرّسة لتياره، وأخيراً ضخ دماء جديدة بهدف مواكبة تطلعات الأجيال الصاعدة، وطموحاتها، التي هي وحدها كفيلة بتحديد مستقبله ومستقبل الوطن ..